ليلة السكاكين الطويلة .. من رماد الحرب إلى ليل الخيانة .. عالي محمد ابنو

أمة تنهض من الرماد ..
كانت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى أمة مكسورةَ الخاطر، منكسة الرأس، تلملم جراحها وسط ركام الإمبراطورية المنهارة.
سقطت الملكية، وانهار الاقتصاد، وفرضت معاهدة فرساي على الألمان شروطا قاسية مهينة؛ نزعت سلاحهم، وسلبت أراضيهم، وأغرقتهم في ديون التعويضات التي كسرت ظهر الدولة.
في المدن، انتشرت البطالة والجوع، وفي الريف، تلاشت الثقة بالسياسيين.
كانت جمهورية فايمار التي ولدت على أنقاض الهزيمة أشبه بطفل مريض يعيش على أجهزة التنفس السياسي.
ولم يكن ينقص هذا الجسد المنهك سوى شرارة غضب، تذكيها الكراهية والخوف والطموح الجائع.
في تلك اللحظة المظلمة من التاريخ، ظهر رجل قصير القامة، حاد النظرات، يملك سحرًا غريبا في صوته، وقدرة عجيبة على إحياء الكبرياء القومي المهان؛ اسمه أدولف هتلر.
الطريق إلى السلطة:
بدأ صعود هتلر في عشرينيات القرن العشرين كظاهرة هامشية، لكنها سرعان ما تحولت إلى إعصار سياسي.
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية القيصرية، غرقت البلاد في فوضى جمهورية فايمار: تضخّم خيالي جعل الخبزة تشترى بآلاف الماركات، وانقلابات يسارية ويمينية، وشعور قومي بالمهانة تحت وطأة معاهدة فرساي.
في عام 1923، حاول هتلر الانقضاض على الحكم عبر انقلاب فاشل في ميونخ عرف ب”انقلاب البيرة”، انتهى بسجنه، لكنه خرج منه أكثر تصميما وأشهر من ذي قبل، حاملا كتابه كفاحي الذي قدم فيه رؤيته للعالم ولألمانيا.
ومع انهيار الاقتصاد العالمي عام 1929، انهارت أيضًا ثقة الألمان بالديمقراطية، وبدأت الجماهير تبحث عن منقذ.
استغل هتلر الأزمة ببراعة، فحول حزبه النازي من تنظيم صغير إلى أكبر قوة في البرلمان بحلول عام 1932، عبر خطاب يجمع بين الوعد بالنهضة القومية، والتحريض ضد اليهود والشيوعيين، ورفض “وصمة فرساي”.
وبينما كان النظام يتهاوى، قرر الرئيس العجوز باول فون هيندنبورغ تعيين هتلر مستشارا لألمانيا في 30 يناير 1933، ظنا منه أنه سيحتويه داخل حكومة ائتلافية.
لكن هتلر، في ظرف عام واحد فقط، حول هذا المنصب إلى منصة ديكتاتورية؛ فألغى الحريات، وحل الأحزاب، وأحرق مبنى الرايخستاغ ليبرر قبضته الأمنية، ثم جمع في يده كل السلطات ليصبح “الفوهرر” أي الزعيم الأوحد للدولة والشعب والحزب.
عداوة هتلر لليهود والشيوعيين: الكراهية كعقيدة
لم تكن كراهية هتلر لليهود والشيوعيين مجرد مواقف سياسية، بل جزءا من نسيج فكره الوجودي.
فهو لم يرَ نفسه سياسيا ينافس خصومه، بل مخلّصا يخوض “حربا مقدسة” ضد قوى الشر التي زعم أنها تسعى لتدمير الأمة الألمانية.
اليهود .. العدو الأبدي
في شبابه الفقير بفيينا، عاش هتلر وسط مدينة مليئة باليهود الأثرياء، فترسّخت لديه صورة “اليهودي المستغل” الذي يعيش على أكتاف الآخرين.
وحين انهارت ألمانيا بعد الحرب، رأى في اليهود كبش فداء مثاليا؛ فهم من خسروا الحرب، وهم من نشروا الرأسمالية، وهم من اخترعوا الشيوعية.
في ذهنيته، كانوا سبب كل شر.
كتب في كفاحي: “إذا انتصرت على اليهود، فإنني أنقذ البشرية كلها.”
الشيوعيون ..العدو الأحمر
رأى في الشيوعية وجها آخر لليهودية.
فكارل ماركس، اليهودي الأصل، كان في نظره من أطلق فكرة “المساواة” التي تهدم التفوق العرقي.
كما اعتبر الشيوعيين خطرا داخليا، خاصة بعد ثورة 1918 في برلين حين حاول اليساريون السيطرة على السلطة.
أرعبته فكرة “التمرد العمالي”، لأنها تعني أن السلطة قد تنتزع من يد الأمة وتُمنح للجماهير.
العدو المزدوج ..
جمع هتلر بين العدوين في معادلة واحدة:
اليهودي = الشيوعي = الخطر العالمي.
ومن هذه المعادلة وُلدت آلة الدعاية النازية؛ كل فوضى تُنسب لليهود، وكل احتجاج يُنسب للشيوعيين.
وهكذا أصبح القضاء على كليهما “ضرورة وطنية” لا مجرد خيار سياسي.
من الكراهية إلى الإبادة ..
في البداية كانت الكراهية أداة سياسية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مشروع إبادة.
ابتداء من عام 1941، بدأت عمليات “الحل النهائي” (Endlösung)، فتم تهجير الملايين من اليهود إلى معسكرات الموت (أوشفيتز، تريبلينكا، داخاو)، حيث قُتل أكثر من ستة ملايين إنسان.
كانت الكراهية عند هتلر دينا، والتطهير قربانا، والموت خلاصا للأمة.
كيف أعاد هتلر بناء ألمانيا وحولها من دولة منهارة، وضعيفة اقتصاديا وعسكريا؟
حين تولى هتلر الحكم، كانت ألمانيا على حافة الانهيار؛ ستة ملايين عاطل عن العمل، مصانع مغلقة، وعملة فقدت قيمتها.
لكنه حول اليأس إلى طاقة عمل جماعية، عبر اقتصاد موجه قائم على الانضباط والطاعة، حيث أصبح العمل واجبا وطنيا لا حقًا فرديا.
ألغى النقابات والإضرابات، وأنشأ منظمة موحدة تُدعى جبهة العمل الألمانية (DAF)، وجعل من العمال جنودا في معركة النهوض.
بدأت المشاريع العملاقة .. الطرق السريعة (الأوتوبان)، وبناء المصانع، وإعادة تشجير الأراضي، وإطلاق مشاريع البناء والإسكان.
هذه المشاريع كانت في جوهرها بنية تحتية لحرب قادمة، لكنها وفّرت وظائف للملايين ورفعت المعنويات العامة.
بين عامَي 1933 و1938، انخفضت البطالة من ستة ملايين إلى أقل من نصف مليون فقط كمعجزة رقمية، لكنها قائمة على الإكراه والديون.
ثم جاء التحول الأهم؛ إعادة التسليح.
في خرق واضح لمعاهدة فرساي، بدأ هتلر سرا بإعادة بناء الجيش، مضاعفا عدد الجنود والضباط، ومُنشئا مصانع ضخمة لإنتاج الطائرات والدبابات.
كل ذلك مول عبر ديون داخلية ومصادرة أموال المعارضين واليهود، وفرض ضرائب موجهة لصناعة السلاح.
هكذا تحول الاقتصاد الألماني إلى اقتصاد حرب شامل، لا يعرف إلا الحديد والنار.
إلى جانب ذلك، تولى جوزيف غوبلز مهمة الدعاية، فحوّل الشعب الألماني إلى كتلة من الإيمان بالزعيم.
رُفعت صور هتلر في كل مصنع ومدرسة، وصار الولاء له مرادفا للوطنية.
العمل أصبح عبادة، والطاعة أصبحت فضيلة، والكفاح من أجل ألمانيا أصبح ديانة جديدة.
وفي غضون ست سنوات فقط، تحوّلت ألمانيا من دولة منهكة إلى قوة صناعية وعسكرية هائلة، تنافس بريطانيا وفرنسا، بل وتتفوق عليهما في كثير من المجالات، وتُرعب أوروبا كلها.
لكن هذا الازدهار لم يكن سوى بناء فوق فوهة بركان، وكان مقدمة لحرب ستلتهم كل ما بُني فوقها.
من الثورة إلى الخوف ..
لم يكن صعود هتلر صدفة، بل نتيجة ذكاء شيطاني في قراءة مشاعر الجماهير.
عرف أن الشعب الألماني لا يبحث عن الخبز فقط، بل عن الكرامة.
فخاطب غرورهم الجريح قائلا: “سأنهض بكم من الرماد، وسأعيد لألمانيا مجدها الضائع.”
أسس الحزب النازي (NSDAP)، ووعد بإعادة بناء الدولة على أسس قومية صلبة، وإعادة الاعتبار للجيش، ومحو آثار فرساي.
كانت خطبه مشتعلة، وحضوره كالمغناطيس، يجذب الجماهير إلى قاعات يغمرها الهتاف كالإعصار.
وفي خضم الفوضى، بدأ الحزب يجمع أنصاره من الشوارع؛ ميليشيات مسلحة تعرف باسم قوات العاصفة (SA) بقيادة رجل ضخم الجثة، قوي الشخصية، هو إرنست روم (Ernst Röhm).
طريق القوة والدم ..
كان روم بالنسبة لهتلر صديقا ورفيقا في البدايات، مؤمنا بفكرته حتى النخاع.
بفضل “قوات العاصفة”، استطاع الحزب النازي فرض حضوره بالقوة في الشوارع، وكسر شوكة خصومه السياسيين من الشيوعيين والديمقراطيين.
لكن بعد أن وصل هتلر إلى السلطة، بدأت الصداقة تتصدع.
فجيش العاصفة الذي أنشأه روم لم يعد ميليشيا صغيرة، بل قوة تُقدّر بالملايين، تفوق حجم الجيش النظامي نفسه بضعفين.
وروم، بطموحه الجامح، بدأ يطالب بدمج قواته في الجيش، بل ورأى نفسه وريثا للثورة الألمانية الحقيقية، لا مجرد تابع لهتلر.
أحسّ هتلر بالخطر.
أدرك أن الرجل الذي ساعده على الوصول إلى القمة أصبح الآن قادرا على دفعه منها.
بدأت الشكوك تتكاثر حول نوايا روم، وأخذت الصحافة بتوجيه من غوبلز، وزير الدعاية، تلمّح إلى “مؤامرة داخلية ضد الزعيم”.
فجر الثلاثين من يونيو 1934 .. بداية التصفيات
في صباح رمادي من يوم 30 يونيو، كانت ألمانيا تستيقظ على واحدة من أحلك لياليها.
تحرّكت سيارات “الإس إس” السوداء تحت جنح الظلام، تحمل قوائم بأسماء المطلوبين.
الزعيم أصدر أوامره؛ التخلّص من الخطر الداخلي .. بلا محاكمة.
وفي نزلٍ صغير في بلدة باد فيسيه قرب ميونخ، كان إرنست روم نائما في غرفته.
داهمه الجنود المسلحون، انتزعوه من فراشه، وساقوه إلى السجن.
بعد يومين، دخل عليه ضابطان، وألقيا أمامه مسدسا.
قال أحدهما ببرود: الزعيم يمنحك فرصة الموت بشرف.
لكن روم رفض الانتحار.
عندها، أطلقوا عليه النار بدمٍ بارد.
سقط الرجل الذي كان يوما أحد أركان الثورة النازية صريعا في زنزانة بلا نوافذ، وكان آخر شيء رآه في حياته في فوهة مسدس.
مذبحة في الظلال ..
لم يكن روم وحده الضحية .. في تلك الليلة التي سُمّيت لاحقا بليلة السكاكين الطويلة، امتدت الأيدي إلى كل من شك هتلر في ولائه.
تمت تصفية أكثر من ثمانين شخصية رسمية، وربما تجاوز العدد الحقيقي المئتين.
منهم قياديون في الحزب، وضباط، وسياسيون معارضون.
كانت رسالة واضحة إلى كل ألمانيا؛ “الزعيم لا يثق بأحد .. ولن يتسامح مع أي خيانة”.
في غضون ساعات، تحول الحزب النازي إلى آلة طاعة مطلقة، لا صوت فيها يعلو على صوت هتلر.
الجيش، الذي كان يخشى من صعود قوات العاصفة، بايع الزعيم الجديد بامتنان.
والشعب الألماني رأى في تلك الدماء “تضحية ضرورية من أجل وحدة الأمة”.
مصير جيش العاصفة بعد المذبحة ..
بعد تلك الليلة، لم يُحلّ جيش العاصفة رسميا، لكنه فقد روحه وسلطته.
تم اغتيال قياداته، وأُخضعت فروعه لرقابة صارمة، وتم تعيين قائد جديد ضعيف الشخصية هو فيكتور لوتسه، ليضمن هتلر أن تبقى المنظمة طيّعة بلا طموح.
ومنذ ذلك اليوم، انقلب ميزان القوة .. صعدت قوات الحماية الخاصة (SS) بقيادة هاينريش هيملر لتصبح الذراع الأمنية المطلقة للنظام، فيما تحوّلت العاصفة إلى ظل بلا أنياب.
بحلول عام 1935، أصبحت SA مجرد تنظيم رمزي للمواكب والعروض الدعائية، تُستدعى لاستعراضات النظام أو لتدريب الشباب النازي على الانضباط.
لم يعد لها تأثير سياسي أو عسكري يُذكر، وتلاشى ما تبقّى من هيبتها تدريجيا.
وفي نهاية الحرب العالمية الثانية حُظرت رسميا بقرار من الحلفاء، وصُنفت كمنظمة ساعدت في تمهيد الطريق للدكتاتورية.
لقد خدم جيش العاصفة الثورة، ثم دُفن في ليلها.
رفع هتلر على أكتافه، ثم سحقه الأخير بحذائه.
إنها القاعدة القديمة لكل طاغية: الثورة تنتهي حين يخاف زعيمها من جنوده الذين أوصلوه للزعامة
اليوم الذي قَتَلَ فيه هتلر رفاقه ..
عندما أعلن هتلر أمام البرلمان لاحقا مسؤوليته عن “العملية”، قال ببرود لا يخلو من الكبرياء لقد كنت أنا القاضي الأعلى للأمة الألمانية.
تحولت الجريمة إلى قانون، وتحول الرعب إلى شرعية، وفي تلك اللحظة، ولدت الدكتاتورية التامة في ألمانيا. لم يعد هناك حزب نازي متعدد الأصوات، بل زعيم واحد، وجيش واحد، وفكر واحد، ومن يعارض يُمحى، ومن يُشك فيه يُقتل.
ليلة السكاكين الطويلة لم تكن مجرد حملة تطهير داخل حزب، بل كانت الحدّ الفاصل بين الثورة والدولة. فيها تحول هتلر من زعيم ثائر إلى طاغية مطلق، يقتل أصدقاءه كما يقتل أعداءه.
ومن تلك الليلة، لم يعد لألمانيا سوى صوت واحد هو صوت الزعيم.
صوت سيقودها بعد سنوات قليلة إلى حرب عالمية، ستبدأ مثل تلك الليلة؛ بخيانةٍ في الظلام، وتنتهي بدماء لا تنتهي; 55 مليون قتيل، ونظام عالمي جديد، سيتسبب هو الآخر في أعداد ضخمة من القتلى والمجوَّعين والمشردين في القرن الذي تلى حكم هتلر.